القائمة الرئيسية

الصفحات

نص رسالة الشهيد العراقي مؤسس اول جمهورية في اليمن الى احد الشعراء قبل 27 عام

 الشهيد جمال جميل ، الظابط العراقي الذي شارك في تأسيس الجمعورية اليمنية - ثورة االــ 26 من سبتمر الخالدة - يبعث رساله الى صديقه الشاعر الحظرمي / حسن بن عبدالرحمن السقاف, قبل 76 عامًا
واليكم نصها : 
الأخ العزيز الأستاذ النجيب السيد/ حسن بن عبدالرحمن, حفظكم الله تعالى, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيْ أخي, أرجو أن تسمح لي أولًا أن أبتعد عن الألفاظ المزيفة ومراسم المجاملة, ودعني أخاطبك بالمفرد بدلًا من الجمع, فإن التمسك به يُبعدني عن حقيقتي.
لو أني التقيتُ بك وأنا ابن عشرين عامًا لَرأيتَ صورةً حقيقيةً وطبق الأصل لكل ما أنت فيه من إحساسات وآلام نفسية, ولَشاهدتَ صدى روحِك في روحي, ومرآةَ شعورِك في أحلامي وآمالي, ولكنّ الزمن يُغير كل شيءٍ, ولا يتغير, فَجَعَلَ مني "جمال جميل" الشخص الذي رأيتَه.
نص رسالة الشهيد العراقي مؤسس اول جمهورية في اليمن الى احد الشعراء قبل 27 عام
وها أنا ما زلت في طريق القوة أزداد صلابة, وفي سبيل قومي أزداد تفانيًا, وفي سبيل ديني أزداد يقينا.
قرأتُ رسالتكَ الرقيقة إلى السيد عيسى عقيل الموجهةَ إليه وإليّ, وإلى السيد حسين الحبشي, مَثَلِيَ الأعلى في الصبر وعدم الاهتمام بسفاسف الأمور, وعرفتُ أنك ما زلت مريضًا بحُمِّيّات (الكوبيد) _يعني به إلهَ الحب عند قدماء الرومان_ كما كنتُ أنا قَبلًا مثلك, وقد أعذرتُك كما أعذرتُ نفسي بإطاعة الذي له سلطانٌ على كل من يخطو سنين الشباب, ولكن منا من يتحرر بسرعة من استعماره, ومنا من يبقى دهورًا تحت سلطانه, وإني لأتمنى من الله ألَّا يكون استعمارُك مِن قِبَلِهِ كاستعمار "الهند" أبدًا ودهرا, وأتمنى أن تكون رجولتُك أقوى من ذلك وأنت ابن "حضرموت" المشهورة بصلابة العود والإرادة.
نعم, إني لا أُنكر أن لهذا الإله بعض الفوائد, لكم أنتم الشعراء, ولنا نحن المحاربين أيضًا, ولكن إذا لم يُوجه التوجيه الحسن, يا حسن, فضرره أعظم من نفعه, والسيد "عقيل" أعظم مثال لهذا الضرر, واللبيب تكفيه الإشارة.
ولو أن هذه الرسالة بعد لقاء صنعاء وفراقها, ولكن يدفعني قلبي أن أكتب لك أكثر مما أكتب إلى أي شخص آخر عرفتُه, وسأكتب عن نفسي شيئًا عسى أن ينفعك في مستقبلك:
وُلدت سنة 1911م, في يوم 14 مارس, في مدينة (الموصل) التي تسمى بأم الربيعين, لأنها تتمتع بستة أشهر خضراء تقريبًا, وهي مسكن قبائل تغلب من وائل, والخزرج, والأوس, والعقيدات من ربيعة, وعائلتي شبه فقيرة, ووالدي يعتاش على المعاش الحكومي البسيط, وفي سنة 1914م سافر أبي إلى الحرب وتركني وأخًا أكبرَ وأختًا أصغرَ, ووالدة, وفي سنة 1918م عاد أبي من الحرب, وبعدها بسنة توفيت والدتي, فطعمتُ لأول مرةٍ مرارةَ اليُتم, وبعدها بسنةٍ تزوج أبي, وكان زواجًا صالحًا عوّض عن هذا الألم البسيط, ودخلت المدرسة لأول مرة سنة 1920م, وفي سنة 1924م اشتركت في تظاهرة ضد الأتراك, لأنهم أرادوا مدينتنا أن تكون تركية, وتمكنتُ في هذه المظاهرة من أن أقف بين يدَي لجنة الأمم, موجهًا خطابي إلى مندوب الدولة التركية: "هل من الإنسانية أن تأخذوا الأطفال من أمهاتهم لتعذبوهم يا قُساة؟!".
وفي سنة 1926م اشتركت بتوزيع منشورات سرية ضد وزارة (نوري باشا السعيد), وكنا أربعة صبيان, وتمكنت الشرطة من القبض على رفيقين منا, وتمكنتُ أنا من الهرب, وبعد المحاكمة الطويلة لم يعترف زميلاي باسمي ولا باسم رفيقي, فكان لهذا العناد الصبياني أعظمَ أثر في الأوساط الوطنية, وقد حُكم واحدٌ منهما سنتين ونصف بالحبس, لكن بعد ستة أشهر خرجا من "المدرسة الإنسانية" وهما موفوري الكرامة, وداوَمَا على مدرستهما.
ومنذ ذلك الحين أصبحت مولعًا بالخدمة الوطنية أكثر, فاشتركت سنة 1932م في حرب (بارزان), وفي سنة 1933م في حرب (التيارية), وحصلت على نوطِ الخدمةِ الفيصليةِ وبطاقةِ الذِّكر الحميد.
وفي سنة 1935م اشتركت في قمع "ثورة الفرات الكبرى" وحصلت على وسام الشجاعة النادرة, وفي سنة 1936م قدّمت طلبًا لحكومتي أهَبُ به نفسي للوطن, وهو أن تطردني حكومتي من الجيش فأهرب إلى إيران, وهناك أقضي على طاغيتها للتخلص من أطماعه في العراق العزيز, فوافَقَت حكومتي مبدئيًّا على أن أتعلّم اللغة الإيرانية, وكان لي بعض إلمام بها, ولكن بعد أشهر أرى نفسي في معية وكيل رئيس أركان الحرب للجيش العراقي (بكر صدقي باشا) الذي كان مُطلعًا على عريضتي السابقة, ثم تسقط بغداد بأيدينا, ونصبح الحاكمين لها.
ولكن أيّ جمالٍ أنا في ذلك الوقت, وقد أسندت إليّ وظيفة مرافق رئيس أركان حرب الجيش العام, وسلمت بيدي خزائن أسرار الجيش!.. آلاف الناس في تلك الساعة وفي ذلك الوضع أصبحوا جمال جميل الذي عرفتَه في صنعاء عينًا بلا تغير, وبقيتُ بهذا المركز تسعة أشهر, كنت فيها أحارب نفسي, وأحارب رئيسي لتهوره بسفك الدماء.
وبينما كنت جالسًا في أحد الأيام مع ضباطي إذ بي أستلم أمرًا بطلب الترشح للاشتراك في بعثة إلى اليمن, فطلبت الاشتراك, وحصلت الموافقة في سنة 1939م.
وفي شهر مارس من سنة 1940م تحركت بنا السيارة تقطع صحراء سوريا, واستقبلتنا سوريا بما يجب, ومنها إلى لبنان ومررنا ببيروت وصُور وصَيدا وحَيفا, ومنها ركبنا بالقطار إلى مصر, ونزلنا ببور سعيد وزُرنا القاهرة وأهراماتها ونِيلها.
وفي يوم 16 آذار تحركت بنا الباخرة "نور كندي" ذات الحمولة 1600 طن, وكانت ملآنة بنساء إنكلترا الهاربات من القاصفات الألمانية, وكانت الباخرة تموج بالحسن والجمال والظُّرف والدلال, وحياةُ البحر لا تعرف الحياء, ولا تعرف المراسيم, فكل أهل الباخرة أصدقاء, وجميع نساء الباخرة صديقات, نلعب ونرقص بلا قيد ولا شرط, وعندما يحل الظلام كانت تنطفئ أضواء الباخرة, إلا الضوء الأزرق, ثم تبدأ الموسيقى بأنغامها الرقيقة المبهجة الناعمة, ثم ترى الجمع الحاشد اثنين اثنين, رجلًا وامرأة, وهم متخاصرين, يميلون مع الموسيقى والنسيم, ثم تسمع الهمسات والزفرات, وعندما تتوقف الموسيقى عن العزف يتسللون أزواجًا أزواجًا نحو السلالم والجهات والأماكن والحُجَر.. _اسمع يا صديقي_ أين هو "كيوبيد" الحب بتلك الساعة الحنون؟! وأين هو السيد السقاف ذلك اليوم؟! لا أدري, وربما أنت أيضًا لا تدري.
خمسةُ أيام قضيناها فوق البحر من بورسعيد إلى عدن, وعندما رست الباخرة لنزولنا, ودّعنا الأصدقاء, الذين لا يمكن أن نراهم مرةً أخرى, ونحن نلوّح لبعضنا بالمناديل, ونتبادل الجمل والابتسامات:
_سفرة سعيدة يا كبتن "رئيس"
_سفرة سعيدة يا آنسة
_هل سنلتقي مرة أخرى؟
_من يدري!
من يدري يا آنسة.. وداعًا
_وداعًا
_وداعًا يا كبتن
ولما وضعنا أقدامنا على البر في عدن ارتفع صوت إخواننا العدنيين بالهتاف "يحيا العراق, ويحيا الملك فيصل, ويحيا الجيش العراقي", وبعد التعارف والمصافحة انتقلنا إلى "أوتيل مارينا" وبعد زيارة معظم أماكن عدن المشهورة بدأنا برحلتنا داخل اليمن, وكانت زيارتنا القصيرة لسلطان لحج ذات أثر نفساني, فقد كنا نجهل بالحقيقةِ نَجابة السلطان, فرأيناه رجلًا كاملًا عاقلا, يقدر الأمور كما يجب.
وهناك ودّعنا مندوب الحكومة الإنكليزية, ومندوب جلالة الإمام, ودَخَلَت سيارتُنا الحدود اليمنية, ووصلنا تعز, مقر بطل الجزيرة وأسد العرين, ونزلنا في نفس الدار النازلين أنتم اليوم بها.
إلى هنا ينتهي القسم الأول من حياتي, أما القسم الثاني, وهو "خمسُ سنوات في اليمن" فسأرسلها لك إن شاء الله إلى حضرموت, وهي مطبوعة وفيها العجائب والغرائب في بلاد بلقيس ومأرب.
التوقيع
أخوكم المحب/ جمال جميل
صنعاء_7ذي القعدة 1363هـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* رسالة بعث بها الشهيد جمال جميل إلى صديقه الشاعر الحضرمي/ حسن بن عبدالرحمن السقاف, قبل 76 عامًا

تعليقات